وداعًا مارس أهلًا بالسنّ القانوني: توصيات لبداية ربيع مبهج.

بداية الإسبوع هذا كنت أضع رجلي في أول عامي الواحد و العشرين وهو السن القانوني في معظم دول العالم، الآن لا يسامحني القانون على أي جناية أرتكبها بقصد أو بدونه، إحساس مفرط بالحماس اتجاه تهذيب نفسي لأن آخر ما أتمناه هو قضاء عشرينيات عمري في دفع ثمن المخالفات القانونية، بهذه المناسبة التي دومًا ما أحتفل بها بكل ما يتوفر حولي و بما أننا الآن في فترة حرجة من تاريخ الإنسانية قررت الاحتفال بما استطيع صنعه في المنزل، إرتديت فستاني الذي ادخرته لهذا اليوم و تزيّنت، خبزت الكعكة التي أحب و نظرًا لعدم توفر شموع قررت أن واحد و عشرون وردة صغيرة بديل جيّد، كما أنني أستمتع بفكرة أنني ولدت في الربيع و أن هذه الزهور تعنيني بشكل خاص -مواليد الفصول الأخرى ربما عليكم البدء بالبحث عن شموع تشبهكم أنتم أيضًا- بعد استغلال أفراد العائلة المحتجزين قصرًا في المنزل و اجبارهم على الاحتفال معي، قررت قضاء بقية النهار على الأرجوحة أتمتع بالرذاذ اللطيف للأمطار الربيعية و أراقب أسراب الطيور تؤدي عروضها الجوّية أمام ناظري لتبهجني و الأشجار تلوّح بأياديها المتفرعة كُمحاولةً لملامسة يدي حتى يتسنى لها مصافحتي و تهنئتي بالعام الجديد، كل ما في الأرض هذا اليوم كان يحلو لي تخيّله وهو فَرِحٌ بوجودي.

أُولي يوم ميلادي اهتمامًا خاصًا من ناحية التفكير في ما أنا عليه و ما لا يرضيني أن أكونه، بعد التمعّن في قائمة المهارات التي كانت لتكون حياتي أسهل لو تمسكت بتعلّمها منذ الصغر هي مهارة أن تكون صبورًا لا يسهل استفزازك، و أنا حتمًا لست هذا النوع من الأشخاص بل إنني من شدة استعجالي أفكر في ما يجب فعله بعد سنوات و أتأذى سريعًا كنتيجة حتمية لعدم تحقق كل ما أريده بالطبع، أريد أن أصبر على نفسي بالتحديد، من بين كل العوائق التي علي الانسان الاهتمام بالصبر عليها و ضبط نفسه حتى يتخطاها فأول ما يجيء في قائمتي هي نفسي، في حياتي كلها لم أواجه شيئًا يمكنه تحطيمي كما فعلت نفسي بي، عجولة و شكاكة في ذاتها و يسهل استفزازها، لذلك أضع خطة علاجية طويلة المدى حتى أعالج نفسي من نفسي، لا أهرب من التفكير في ما لا يعجبني، أتأكد أنني أفهم تصرفاتي و أنّي بأكملي تحت سيطرتي، أضع يدي على ما يؤلمني و يزعجني و أعترف أنه يفعل -عوضًا عن تجاهله و تحمل الآلام الإضافية نتيجة الجهل بالمكان الذي تأتيني منه الضربات التي توجعني-، أحاول تذكير نفسي بأنني لست المُلامة دائمًا و أن الحياة يمكنها أن تتصرف كصديق طفولة خائن أحيانًا.

بالحديث عن الربيع و ما تجلبه رياحه النديّة من بهجة معها فدائمًا ما يرتبط الربيع في ذهني بالأشجار، ربما يعزى ذلك لكوني نشأت و ترعرت في قرية زراعية، أعرف المواسم بالأشجار التي تثمر فيها، الآن يأتي موسم حصاد التين و التوت و النبق و الفلفل و الجزر و تتكوّر ثمار المانجو الخضراء في انتظار قِطافها صيفًا، أقضي وقتًا لا بأس به في صحبة الأشجار هذا الوقت من العام لذلك أجد الألفة في قراءة هايكوات الشاعر الياباني “إيسا كوباياشي” الذي عاش هو الآخر في قرية زراعية بسيطة بين عاميّ 1763 و 1827 و يصف فيها حياته كشاعر يقضي يومه تحت ظلال الأشجار و مساءً يأكل وحيدًا في بيته الجبليّ، أعاود فتح الديوان لأقرأ منه كل ليلة تقريبًا و لا أغيّر مكانه بجانب السرير، لأن القراءة لإيسّا تمنحني السكينة و تأخذني بيدي لأوقات لم أحظ بمعايشتها و لا أظنني سأفعل، يلفت نظري للمشاهد التي لم أكن أرى فيها جمالًا قط، حوّلني إيسّا إلى شخص يرى الحياة حوله صورًا شعرية و من يعلم ربما أبدأ بتدوينها ذات يوم، لذلك أستذكر أكثرها ملاطفةً لقلبي:

"بقلق
تعبر المطر الهاطل
فراشات الربيع"
"حتى الفئران 
نشعر بالإرتياح و تنام
تحت أمطار الربيع"
"من تلقاء نفسه
ينحني الرأس
لأزهار البرقوق"
"سطح تلو سطح
تُفتح النوافذ دفعةً واحدة
أوائل الربيع"
" أليس من العجائب
أن تكون حيَّا هكذا
و في ظلال الأشجار!"

و من اليابان أيضًا لا يمكنني التغاضي عن رواية “ملذات طوكيو“، وصوف أشجار الكرز فيها و تعاقب الفصول كان يلفت انتباهي أكثر حتى من القصة ذاتها، تعجبني الأعمال التي لا تُغفل جريان الزمن على المحيط، فالزمان يجري على مكان القصة كما هو الحال مع الشخصيات، و أكثر ما أتذكره في هذا العمل قول إحدى الشخصيات “ان الطريقة الوحيدة لأن نحيا و نعيش هي بالتأكيد أن نصبح نوعًا من الشعراء و الشاعرات إن النظر إلى الواقع وحده يمنح المرء رغبة في الموت “. مهما طال تفكيري في هذه الجملة أجدني أعود لأتفق معها، إن الشعر يملك قدرة عجيبة على مواساتي و إلهائي عن سوء الحياة، أتعافى بالشعر كما يتعافى المحبّ بحبيبه.

قبل أن أقفل الباب على التوصيات اليابانية أدعوكم لإعطاء السينما اليابانية فرصة هي الأخرى في إثبات أن لرؤية الأشجار تزهر في الربيع تأثيرًا خارقًا على نفس الإنسان، في الفلم الرقيق “our little sister” الذي يحكي عن ثلاثة أخوات يعشن في بيت متواضع ببلدة كبيرة، يلتقين للمرة الأولى بأختهن الصغيرة في جنازة والدهن الذي طلّق أمهن و عاد للريف ليتزوج و ينجب الصغيرة سوزو ذات الخمس عشرة عامًا، يقررن دعوتها للعيش معهن في المنزل و يظهر الفلم طريقة تحوّل حياة كل واحد منهن أثناء تكوّن تلك العلاقة الأخوية الجميلة، المشاهد في هذا الفلم تساعدني على الاسترخاء لذلك أعاود مشاهدة بعض لقطاته من وقت لآخر.

في منزلنا نشرب الشاي منذ الصغر بعد وجبتي الغداء و العشاء كتقليد يومي، قبل عام أضفت الشاي أيضًا لوجبة الفطور، أحبّ الشاي و لكنني أحبّه أكثر الآن حيث يمكن لكل شيء أن يحوي أضعاف سحره و تأثيره في الربيع، في هذه الأيام أُداوم تحضير شاي جلبه لي أخوتي حين خانوا العهد و ذهبوا لرحلة شتائية من دوني في بريطانيا، اكتشفت مؤخرًا أنه يباع أيضًا عبر الانترنت لمن أراد التجربة، الجدير بالذكر أن كل ما يباع لديهم مفعم بشكل غريب و مركّز بالنكهات، أعني أنني جرّبت أنواعًا عديدة من الشاي و مسحوق الشوكولا الخام لكن لم أشعر مسبقًا برغبة ملحّة في إخبار الناس بأيّ منها، يشعرني بالنشوة ذلك المذاق الحار على لساني لأوراق شجرة الكرز و الشاي الأخضر، لم أشرب كوبًا من هذا الشاي إلا و تحسّن مزاجي منذ الرشفة الأولى، أتمسّك به دومًا كورقة رابحة أمام الأيام الصعبة، ورقة لم تخسر قط.

5 رأي حول “وداعًا مارس أهلًا بالسنّ القانوني: توصيات لبداية ربيع مبهج.”

أضف تعليق