ثمّ لا يسعك التملّص: كتابة شعثاء عن بلوغ الخامسة والعشرين

مضي العمر وتخف غشاوة الانبهار من العين. يمضي العمر وتفهم ثقل الواجب وطمأنينة المألوف ومُنية العادي وسَنَّة الرفض وكارثية الواقع وواجب الحلم ويقين …

ثمّ لا يسعك التملّص: كتابة شعثاء عن بلوغ الخامسة والعشرين

الخطو بعيدًا عن القرية

أكثر ما يقلقني في الكتابة هو معرفة أنني يجب أن أكتب لعملي، أن ترتبط هوايتك بعملك هو نوع من الجحيم الذي لم يسبق لي تخيّل وجوده، كلما رفعت قلمًا سمعت صراخًا في عقلي ” هذا القلم يجب أن يُرفع للعمل” لذلك أنزله سريعًا و لا أكتب لا للتسلية و لا للعمل، ثلاثة سنوات من الحرمان القصري عن الكتابة بسبب هذه الفكرة المؤذية، اليوم أحقق انتصارًا على عقلي و أكتب بلا شعور بالذنب مع أنني في أسوأ مراحلي في العمل لكنني أدركت أن أحدًا يعاني باستمرار لا يمكنه أن يصنع عملًا متقنًا كما أحب لذلك قررت إنهاء هذه المعاناة و العودة للكتابة أخيرًا.

أقضي جزءًا من أسبوعي في المدينة، ثلاثة أيام أو أقل غالبًا، لثلاثة سنوات كنت أشعر أنني لا يجب أن أترك منزلنا في القرية سوى للطوارئ، لم أكن أطيق أن أرى منزلنا الكبير فارغًا في وسط الاسبوع من الجميع عداي أنا و أمي، يحمل الصغار في كل عائلة شعورهم بالذنب لترك آبائهم و أمهاتهم وحيدين بينما ينطلق الكبار بحماسة في الحياة، بعد ثلاثة سنوات اكتشفت أن لأمي حياة خارج هذا المنزل، لها أم و أخوات و جيران و أصدقاء في المسجد و أصدقاء في المجالس، و لي أنا وحدتي و قلقي من المستقبل و مشهد أصدقائي و هم يغادرون واحدًا تلو الآخر هذه القرية، لذلك كان القرار أخيرًا أن أقضي جزءًا من أسبوعي في المدينة، لطالما كنت مهوسًا بالصخب، تُسكرني فكرة الازدحام و الضجيج و مشاهد الناس و هم يمارسون الحياة، العيش طوال حياتي في القرية ترك ندوبه أخيرًا في روحي لذلك كان يجب أن أغادر أنا الأخرى ولو بشكل جزئي.

الطريق الجبلي الواصل بين المدينة و القرية

لم يتغير الكثير في المدينة، لازلت أقضي معظم وقتي وحيدة، بسبب نظام عملي الذي لا يتطلب سوى وجود هاتفي و حاسبي المحمول معي طوال الوقت فأنا غير مرتبطة بأية ارتباطات عمل فعلية غالبًا، أنهي معظم عملي في فراشي حين استيقظ و أقضي بقية يومي و أنا أفكر في طريقة تطوير هذا العمل و هي سلسلة لانهائية من كلمة “لو” بالمعنى الحرفي للانهائية، في الثلاثة أيام التي أزور فيها المدينة أواظب على حضور مواعيدي الاسبوعية في المشفى و على حصة السباحة، لي قائمة اسبوعية من المهام التي يجب أن أنجزها في المدينة: أمي تريدني أن أحضر عبائتها من الخياط، أختي تريدني أن أحضر سلطة سلطعون حين أعود من إقامتي الاسبوعية هنا، يجب أن لا أنسى شراء مستحضرات التجميل و العناية التي تنقصني هذا الاسبوع، أتأكد من المرور و استلام أدويتي، ابنة عمي تودّ مني أن أستبدل مقاس حذائها، تبقي هذه المشاوير على رغبتي في الحياة أحيانًا، أعني أنني يجب أن لا أختفي عن وجه الحياة هذا الاسبوع و إلّا من سيجلب ملابس أمي أو السلطة لأختي و من سيهتم بأمر حذاء ابنة عمي، لذلك أؤمن أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش معزولًا مهما بالغنا في رمسنة الوحدة و الانعزال، يحتاج الجميع لمن يهتم بأمرهم و يقضي حاجاتهم و نحن نتقلب بين أدورانا كمعطين أو مستقبلين لهذه الخدمات.

أشاهد فلمًا واحدًا على الأقل كل أسبوع، بما أنني لا أجد الطاقة للقراءة حاليًا فأستعيض بالأفلام، للتو أنهيت مشاهدة فلم past lives الكوري الأمريكي مع صديقتي، لي أصدقاء معتمدين للمتابعة الجماعية، نتشارك الذوق ذاته في الأفلام و تضحكنا التعليقات ذاتها و يندر أن نشعر بعدم توافق في الآراء اتجاه شخصية معينة في الفلم، نفعلها بأكثر طريقة بدائية، نكون في اتصال صوتي عبر الانترنت و يهتف أحدنا “١ ٢ ٣ يالله!” و يضغط كل واحد منَّا على زر التشغيل في جهازه و نتابع بالمزامنة، تذكرني الطريقة بما قبل اكتشاف الاتصال بالفيديو و مشاركة الشاشات و سيرفرات ديسكورد، لا أدري تعجبني الطريقة الأقدم، استمعنا لبعض أغاني كوهين وسط صمت و تنهيدات، نهاية الفلم كانت منهكة، و في عصرنا يندر أن لا يمرّ المرء بتجربة مماثلة، لا يترك الانترنت للإنسان فرصة النسيان او الاختفاء من ذاكرة غيره إن أراد.

كوهين و أنا و طيف

أستيقظ يوميًا هنا و أفكر في المكان الذي يجب أن أزوره اليوم، أبحث عن صديق، أستميت في البحث عن رفقة و لكنني لا أنجح في الغالب، ترتبط حيوات إخوتي و أصدقائي بأعمالهم، حتى الساعة الخامسة عصرًا يستحيل أن أحظى برفيق، بدأت بالاعتياد و تقبّل الفكرة أخيرًا، أحمل حاسبي و هاتفي و أنطلق بحثًا عن بقعة جيدة لمراقبة الناس و العمل، أنخرط في الصفحات اللانهائية في برنامج الإكسل و أنسى للحظات أن لا رفيق لديّ اليوم، حين أفرغ من عملي أبدأ بمراقبة الجميع من حولي، انتقالي للتصوير الفوتوغرافي بشكله الاحترافي الحالي أثّر كثيرًا على نظرتي للحياة من حولي، أتخيل الواقع لقطات مثالية من وراء العدسة، تسعدني هذه الأفكار أشعر أنني أتغير، أتغير يعني أنني على قيد الحياة، تبعث الصور فيّ رغبة البقاء لأنني أودّ أن أعيش في كل صورة جيدة أصادفها، ألتقط الصور لأن عقلي لا يتسع لكثافة الحياة، تمامًا كما هي الحاجة التي تعتريني للكتابة و التدوين الآن.

المنظر الساحر للقمر، توقفت للتأمل قبل أن أدخل للمنزل أخيرًا و تنتهي رحلتي اليومية في شوارع المدينة

دبي

٥ سبتمبر ٢٠٢٣

دليلك لحفظ خريطة مدينة بعيدة

تتفجر رغبة الكتابة التي أكبحها طوال السنة في السفر، أحاول فحص حياتي اليومية ومعرفة ما الذي يجعل الكتابة شيئًا يمكنني الاستغناء عنه دائمًا سوى في هذه الأيام المعدودة خارج البلاد، أرجح الأمر لعدم وجود مساحة شخصية كافية في السفر، اعتدت أن أقضي معظم أيامي بمفردي و لي غرفتي الخاصة بعدما تزوجت أختي قبل خمسة أعوام لكن السفر يحتم عليّ تشارك الغرفة مع أختي الكبرى و هذا يفرض حجرًا غير مقصود على كل طرق تنفيسي عن مشاعري اليومية، انتهج مبدأ التفريغ اليومي منذ فترة ليست بالقصيرة، قبل النوم أفكر في ما يزعجني و ما أكره، اسمح لنفسي بالغضب و الشتم و البكاء حين تلزم الظروف، ثم أخلد للنوم بأكبر قدر ممكن من الطمأنينة و السلام، لا تفلح الخطة دائمًا أحيانًا أكون أكثر تعبًا من التفرّغ لنفسي فأخلد مباشرة مُراكمةً فوقي أثقالًا يومية ثم أهاتف الأصدقاء حين تنسدّ قناة تصريف المشاعر و أسمح لهم بسحب العالق و مساعدتي على استئناف مسيرتي الحياتية.

صورة من أحد المقاهي المغلفة ليلًا

زيارتي هذه لميونخ ربما تكون الثامنة أو أكثر أو أقلّ توقفت عن العدّ بعد المرة الثالثة سُئلت مرةً عن المدينة التي لا أملّ زيارتها و عرف الجميع ان اجابتي ستكون ميونخ، تعتبر هذه المدينة من المدن القليلة التي تشعرني بالأمان لا يمكنني الشكّ في أي شخص في هذه المدينة الجميع يبدون على قدر رائع من اللطافة، تداخل مبانيها القديمة و الحديثة يجعل المشي في شوارعها المليئة بقدر غير متوقع من التصليحات رحلةً ممتعة دومًا، نسكن منذ سنوات في الفندق ذاته كلما زرنا المدينة حتى أنني صرت أحفظ الوجهات و استخدم الفندق كنقطة مرجعية رغم شهرتي بسوء معرفتي بالخرائط و الاتجاهات، لا يوجد شارعان متشابهان لذا حفظ الأماكن أمر يسهل عليّ هنا أكثر من حفظ الشوارع في مدينتي التي تتشابه في معظمها، أؤمن أن المشي هو الوسيلة المثالية لحفظ الأماكن كما أن النسخ هو الطريقة المثالية لحفظ تهجئة الكلمات بلغة أجنبية، تتهجى الشارع مبنىً مبنىً.

لا أعلم من هو لكنه يبدو رائعًا لسبب مجهول

أحب في ميونخ أكثر ما أحب حديقتها الانجليزية و هي حديقة عامة بلا سياج تقع في منتصف المدينة، ربما تبدو الفكرة عادية لكن لأي درجة يمكن أن يكون عاديًا وجود حديقة ضخمة في وسط المدينة يعبرها نهر ضخم هائج مناسب لرياضة ركوب الأمواج، و مئات الجسور مع ما يقارب السبعين كيلومتر من ممرات المشي، و عشرات الكائنات التي تتكاثر بحريّة في هذه الحديقة، كيف يمكن لمواطنين هذه المدينة عيش حياتهم الرأسمالية في العمل ثم العبور عائدين لمنازلهم من منتصف هذه الحديقة الضخمة حيث تختفي تمامًا ملامح الحياة الحضرية، أنشأ بنيامين طومسون وهو عالم فيزياء بريطاني هذه الحديقة عام ١٧٨٩ لتتماشى مع حدائق انجلترا، إنها بتعبير آخر حديقة مبنيّة على الحنين، الحنين لكل ما هو مألوف في الوطن لذلك تتملك الزائر لها مشاعر ثقيلة غير مفهومة، حين اقتحمتها لأول مرة جذبني صوت النهر كان يهدر حتى لا تكاد تسمع صوتك حين تتكلم، الصوت القوي يعلن عن النهر لكنه لا يتجلى أمامك بسهولة فهناك مسافة طويلة تفصلك عنه فعليًا، إن الاستدلال على النهر بصوته فقط في هذه الغابة مغامرة بحدّ ذاتها، منذ سنتين و أنا أكرر أن مخطط رحلتي القادمة لميونخ سيشمل بالتأكيد زيارة للحديقة و الجلوس لشرب كأس شاي ساخن أمام النهر، لأسباب لا أعرف ما هي بالضبط لكنني حتى الآن لم أتمكن من رؤية النهر و لا سماع صوته مع أنني زرتها مرتين منذ أغسطس الماضي.

أحد مداخل الحديقة الانجليزية الموزعة حول المدينة

زيارتي الأخيرة قبل أيام أصابتني بإحباط حقيقي، للمرة الأولى أودّ لو أغادرها رغم أنني بالعادة أصاب بالأرق كلما هبطنا فيها خوفًا من ضياع الوقت في النوم بدل المشي لكن رحلتي هذه المرة كانت لليلتين فقط هناك، و من سوء الحظ أن يصادف هذا يوم أحد حيث تهدأ المدينة بطريقة غريبة، لا أفهم كيف يتعامل الأوروبيين عمومًا مع إجازات نهايات الاسبوع، كيف يمكن لكل شيء أن يُغلق حتى متاجر الأغذية و الصيدليات، و الأفظع من ذلك هو إغلاق الملاهي، ما الذي يفعله الألمان في إجازة نهاية الاسبوع؟ يعمل العالم بأكمله بعدد ساعات تقارب التي يعمل بها الألمان لكنهم يقضون نهايات اسبوعهم في البيوت أو مستلقين تحت ظلال الأشجار المهم ان اجازتهم غالبًا لا تشمل الفعاليات الخارجية كاللعب و التسوق، غادرت ميونخ حزينة لأول مرة، يشبه الشعور حزنك من الملل المفاجئ الذي يصيبك عندما تسمع أغنيةً اعتدت على حبها و الاستمتاع بها، ربما يكون التوقف عن سماعها الحل الوحيد في هذه الحالة، أتوق لعدم رؤية ميونخ لسنوات عديدة قادمة.

مطعم البيتزا المفضل لأنه آخر من يغلق أبوابه في هذه المدينة

صورة شخصية لحفل تخرج

الرتابة التي تصحب لحظات الاستيقاظ الأولى تغرقني في تعبيرات كثيرة جيدة للكاتبة و التدوين لكن ذلك لا يدوم سوى لثوانٍ معدودة قبل أن أمسك هاتفي و أتوه عن نفسي، اضطرابات النوم أمر حقيقي جدًا بدأت بتصديق الأمر مؤخرًا، أنام قبل منتصف الليل و أصحو لصلاة الفجر في قمة نشاطي ثم أعود للنوم فجر اليوم التالي أي بعد ٢٤ ساعة من الصحو، بصراحة أجد الأمر مخيفًا أكثر من كونه مريب.

اليوم حفل تخرجي من الجامعة بعد خمس سنوات من التوهان في الإحتمالات الهندسية، لديَّ مشاعر متضاربة بخصوص التخرج، لم أنتظر تخرجي من أي مرحلة و دومًا تجاهلت تواريخ تلك الأيام، تمامًا كما أفعل مع كل الأحداث الكبيرة في حياتي، أخطأت في تاريخ حفل تخرجي من الجامعة ثلاث مرات حتى الآن، استيقظت ثلاثة مرات لأكتشف أنني مخطئة و أعاود النوم، حفل تخرجي من الروضة كان استثنائيًا لأنه الأخير في مبنى الروضة القديم و الذي يعتبر في الحقيقة منزل شعبي في حي صغير في قرية مجاورة، طلبت مديرة الروضة من الدفعة الأولى التي تخرجت من هذه الروضة الحضور لحفل تخريجنا كنوع من الوداع النهائي للمبنى و لذكرياتهم القديمة جدًا، حضر القليل، القليل الذي بالكاد اتذكر حضوره، أختي كانت من الدفعة الأولى و لكنها كمعظم أصحابها لم تحضر لانشغالها بالجامعة، فاتتهم جميعًا النظرة الأخيرة لمرتع الطفولة، المضحك أنه بعد كل تلك الطقوس الاحتفالية الوداعية لم نكن نحن الدفعة الأخيرة التي تتخرج من المكان بل تم الإبقاء على المبنى لسنة أخرى بسبب عدم جاهزية المبنى الجديد حيث انتقلت الروضة بعد عام كامل من الطقس الوداعي.

تخرّج الروضة كان الأفضل بين كل حفلات التخرج التي تخصني، الأسوأ كان حفل التخرج من المدرسة الابتدائية، بدأت أمي بإكمال دراستها الإعدادية حين كنت في منتصف دراستي الابتدائية، انتظرت بشغف شديد يوم التخرج هذا، لم يصدر جدول امتحانات والدتي النهائية بعد فلم أخف من احتمالية أن تتخلف والدتي عن الحضور، كنت إحدى المقدمات الثلاث للحفل، ابنة خالتي كانت المقدمة الثانية، أتذكر ارتداؤنا للفستان ذاته كما يجب لبنات الخالة أن يفعلن، أخبرتني أمي قبل حفل التخرج ببضعة أيام أنها لن تستطيع الحضور، جدول امتحاناتها يتعارض مع يوم الحفل، كطفل صغير شعرت بتماسك عجيب، أتفهم أن أمي تحتاج لنيل شهادتها كما أن معلمة اللغة العربية التي أحب ستكون هناك فلا داعي للخوف، توفّي والد معلمتي قبل الحفل بأسبوع فكان محتمًّا أن لا تحضر هي الأخرى لكن لم أبد أي ردة فعل، لا مشكلة سيكون حفلًا عظيمًا حتى بغياب الجميع، أيقظتني والدتي بعد الفجر و وضعت ملابسي في يدي و أرسلتني لمنزل خالتي حيث ستهتم هي بتسريحي و ترتيبي مع ابنتها و ستذهب والدتي لامتحانها، كرهت بشدة التزيّن مع ابنة خالتي في كل المناسبات و كنت دائمًا أفتقر لأسباب صريحة تجعل هربي من هذا الموقف مقبولًا، شعري الأسود الطويل تحت قبعة التخرج و أوراق التقديم في يدي وجدتني للمرة الأولى أقف أمام جمهور من مئة شخص و يزيدون، لم أرفع عيني للجمهور لأن أمي ليست هناك، طوال الحفل التزمت برؤية اوراقي أو مراقبة العروض من خلف الكواليس، خلف المسرح توجد غرفة لتخزين الهدايا التي تخص كل طالبة حيث ستصعد والدتها لإهدائها مع شهادتها، أصبت بمسّ طفيف من الجنون حين دخلت الغرفة و تذكرت أن لا شيء من هذا كله يخصني لأنني سأتلقى شهادتي من المديرة لا من والدتي، اقترب وقت التكريم و أنا أحاول بشدة أن أمسك على قلبي، أخذت شهادتي و انسللت بعيدًا عن الحشد لأحصل على نصيبي من فقد حضورها، والدتي التي أحب، نادتني خالتي لتهديني باقة منها و أخرى من والدتي، عدت للبيت أغلقت الباب و بكيت بجنون، الجنون الحقيقي أنني أبكي مع هذه السطور، بعد سنوات في مقاعد الجامعة درست قانون حفظ الطاقة حيث ينص القانون على أن الطاقة محفوظة لا تفنى و لا تستحدث بل تتحول من شكل لآخر، آلام الطفولة أيضًا لا تشفى فقط تتحول من شكل لآخر.

درست الاعدادية و الثانوية في مدرسة واحدة لذلك كان حفل التخرج الوحيد الذي حظينا به هو في آخر أيام الثانوية العامة، بخوف شديد من فكرة الافتراق النهائي عن الرفاق كنت أحضّر لهذا الحفل، أرحت رأسي على طاولتي الدراسية في كل مرة تم فيها تهديدنا بإلغاء الحفل بسبب سلوكنا الغير منضبط، توفي جد صديقتي قبل الحفل بساعات فلم تحضر و شعرت بألم شديد من الاحتفال بدونها، في آخر سنتين في الثانوية شهدنا كأصدقاء ثمانية مراسم عزاء، الحزن ينضج القلب كما ينضج الماء المغلي بيضة طازجة، تزيدنا الأحزان قساوة، أتذكر من حفل التخرج حضن والدتي فقط، الشيء الوحيد الذي كان يهمني أن يحدث و لم أصدق أنه حدث أخيرًا.

طلبت منّا الجامعة إرسال صورنا الشخصية لوضعها في حفل التخرج الإلكتروني الذي يفترض أن يُبثّ بعد ثلاث ساعات، لم أهتم بإرسال صورتي، لطالما كرهت فكرة الصور الشخصية، أخبرت أمي بشكل عابر عن الأمر و صدمني إحباطها، قالت لماذا تحرمين نفسك هذه الفرحة، الآن أكتب كل هذه الأسطر لأشتت ذهني عن اللحظة التي يبزغ فيها اسمي بلا صورة، وديمة؟ من وديمة؟ هل تملك وجهًا؟

بعد آخر امتحان في الجامعة أغلقت حاسبي الآلي و التقطت صورة شخصية بقبعة تخرج مرمية في الدولاب أظنها تعود لإحدى أخواتي، ربما لم أشارك العالم صورتي بملابس النوم و قبعة التخرج هذه و لكنني على الأقل أملك واحدة لنفسي، هناك أغنية أريد تذكّرها في هذا اليوم، مغامرة العمر Adventure of lifetime لفرقة الروك الإنجليزية كولدبلاي، لا النسخة الأصلية بل نسخة معزوفة من فرقة عشوائية لم أجد رابط الأداء في اليوتيوب لذلك أحتفظ بهذا الرابط من موقع أزوره كلما دعت الحاجة لسماع شيء يخرجني من نفسي و يدفعني للاحساس بانتصار وهمي على كل شيء، على مغامرة العمر بأكمله مثلًا.

حساب الفنانة اليابانية صاحبة صورة التدوينة في تويتر.

ثوانٍ معدودة قبل أن ينفجر المرء بنفسه

لقد أخطأت العد في المرة السابقة لم تكن تلك هي الليلة الثالثة عشر من ليالي الأمومة بل كانت الليلة العشرين و الآن نحن في الرابعة و العشرين، بجدّية أحزنني خطئي هذا، أحزنني لأنه يشعرني أن عقلي لا يعبأ بالأيام الصعبة التي أخوضها أم أنه يفعل و يتجاهل التفكير في الأمر، هذه هي طريقته اللعينة في التعافي، يفقد الإحساس بالزمن، أذكر أنني رفضت فكرة زواج أختي و انتقالها لمنطقة بعيدة رغم أنني و يا للعجب كنت أنا من أقنعها به، تجاهلت النظر للتقويم قبل شهر كامل من الحفل، لمدة شهر كامل لم أعلم في أي يوم أنا حتى صحوت فجأة لأكتشف أن الحفل غدًا و أن الأمر حقّ و قضى الله أمرًا صار بإذنه مفعولًا.

على عكس الليالي الماضية قررت إعادة جدولي اليومي القديم و النوم مع الأطفال و الاستيقاظ قبلهم عوضًا عن النوم بعد الفجر و الاستيقاظ معهم و نحن نبكي جميعًا، كبَذل السكينة الحادة في قطعة حلوى طرية قطع صياح الصغير ذلك الحلم اللذيذ، استيقظت و لا أدري من أين أتاني ذلك الصبر العظيم حتى أنني لم أشعر بالضيق أبدًا من استيقاظه، أخبرني قلب الأم الجديد الذي أحمله في أضلعي من اربعة و عشرين ليلة أنه يبكي لذات السبب الذي أبكاه قبل أربع ليالي، توجهت لمكان نومه رفعت لحافه و ملابسه، الجلد الأحمر ذاته مرة أخرى، هذه المرة سأفعلها بهدوء، هذه المرة لن يبكي الطفل بسببي.

اخترت بسرعة أن أجعله يستمر في بكاءه المتقطع أثناء نومه ريثما أجهّز ماءً دافئًا بدل البارد الذي وضعته فيه المرة السابقة، تركت الماء يتدفق لدقائق قبل أن يصل للحرارة المناسبة، جهزت الماء الدافئ في المرضعة و أجّلت وضع الحليب ريثما انتهي من تغسيله، و المرة الوحيدة التي ركضت فيها كانت لجلب ملابسه من الطابق السفلي، عدا ذلك حلفت ان لا اركض اليوم، أيقظته وهو يبكي بتعب و ينام في منتصف بكاءه، أخذته ليغتسل و أنا أردد “لا مشكلة حبيبي ليس خطأ أحدهم لا تبكي” ينظر لي و يتوقف تدريجيًا عن البكاء، أضع مرهمًا لآلامه، ألبسه و أمسك الحليب لأضعه في المرضعة و أنا أعدّ ، واحد إثنان ثلاثة حين أصل الرقم الأخير يصفّق هو من السرير ببهجة، لم أوقف بكاءه بل جعلته يضحك أيضًا، انتصرت!

ينام الآن بجانبي بكل وداعة الأطفال تلك التي تجعلك لا تغفر لنفسك أن تفسدها أو يفسدها عليهم أحد ما، ربما يجد القارئ أن هذا أمرعاديّ أن يستيقظ وهو يبكي و تتم إعادته للنوم بكل هدوء، لكن الأمر ليس عاديًا أبدًا و أودّ من المشككين خوض التجربة ، استغرقني الأمر أربع ليالٍ لأتعافى من هلعي حين رأيت جلده يتحول للأحمر بهذه الطريقة، تدفعك يد الله بين الأقدار لتعلم أين هي حدودك الفعلية التي تستطيع احتمالها، وديمة المدللة التي تعود للمنزل في نهاية الأسبوع و تنام معظمه قبل ان تعود للسكن مرة أخرى كانت تحسب أنها ستستمر بالبكاء و الهلع في كل مرة يوقظها فيها طفل وهو يبكي، لكن وديمة فعليًا لا تبكي حتى في المرة الأولى و يسكن هلعها من المرة الثانية، في نهاية الأمر يبدو أننا نحن لسنا من نظن ، و أن صدق قول الله العظيم “لا يكلف الله نفسًا إلا وُسعها” ذلك الوسع الذي يبدو بلا نهاية أحيانًا، جرابٌ يتسع و لا يسمح الله بخرقه، أعاود دائمًا تذكّر زوربا حين قال “ثم وضع الله يده في الأمر” يضعها مباشرة قبل حدود احتمالية الإنسان، قبل أن ينخرق جِرابه بثوانٍ معدودة و لا يسمح لذلك أن يحدث و “قدرة الله فوق الشك و التهم”.

أحتاج من يخبرني دومًا أن لا أنساني

هذا الليلة الثالثة عشر من ليالي الأمهات الغريبة، كنت استمع لأغنية فايزة أحمد بإنصات و أعمل على تكملة مهامي الدراسية حين بدأ الصغير بالتقلب و الهمهمة تجاهلته كالعادة يفعل ذلك كل ليلة و يعاود النوم، انتظرته حتى يهدأ من نوبة الترفيس الجنونية و أردت إعادة الغطاء فوقه، انتبهت ان جسده احمر و يبدو انها الحساسية وضعت يدي عليه بدأ بالبكاء.

يبكي متألمًا و أنا اركض به من مكان لآخر في المنزل اجلب الادوية اوقظ أمه كي تشرح لي ما يجب فعله و أغسل جسده الغضّ بماء بارد، لازال يبكي وهو مغمض عينيه، من يستطيع مقاومة البكاء حين يُسكب عليه ماء بارد وسط نومه، استيقظ اخي و زوجته بسبب نشيجه و كنت اخاف إيقاظ بقية النائمين فجميعهم يتجهون لأعمالهم بعد الفجر، ألبسته و أنا أمسح على جسده بخوف و رقّة خشية أن أحمّله ألمًا إضافيًا لا داعي له.

أتذكر أنني تركته قبل يومين بملابس متسخة بالرمل لمدة ساعتين لأنني شعرت بالتعب جرّاء هبوط السكر و اخبرت نفسي “لندعه يلعب قليلًا و سأحممه بعدها” تحاول أختي أن تسكته و تعيده لفراشه، تبادلنا الأماكن ذهبت انا لغرفة الرضيع، هذا الآخر يبكي بشكل متقطع وهو نائم أحتضنه و أبكي معه، أشعر بالذنب اتجاه الصغير النائم في غرفتي و أودّ أن أعوّض آلامه التي سببتها بغير قصد لذلك أجلس الآن بجانبه على الفراش بعد أن خلد لنومه و أنا أتأمل وجهه الصغير و أركز في عمق تنفسه و انتظامه.

من يكمل عني واجباتي التي سأسلمها غدًا؟ لا أعلم، كيف أوقف ألام الظهر القاتلة هذه جراء الجلوس لساعات على المكتب ثم الركض المفاجئ بين الغرف و انا احمله كما لو كنت في ماراثون؟ لا اعلم أيضًا، ما أعلمه أنني خائفة و اشعر بذنب ثقيل اتجاه كل شيء و أن هذه الأيام اختبار حقيقي لقدرتي على الصمود امام شعور الذنب هذا.

أصعب من أي شي آخر هو أن تقول لنفسك في أيام تحمل هذا القدر من المسؤوليات “لقد قمت بعمل جيد” أذكر أنني قرأت رسالة انتحار المغني الكوري الذي احدثت وفاته ضجة في ٢٠١٧ و أكثر ما آلمني و أشعرني أنني سأفعل فعلته يومًا ما إن لم أتعامل مع الأمر بجدّية هي جملته هذه “إنها معجزة أنني تمكنت حتى من الوصول إلى هذا الحد، ما الذي يمكنني قوله أكثر من هذا؟ فقط قولوا لي أني عملت بجد، قولوا لي أني كنت جيدا وأني مررت بالكثير” اعتقد ان اول خطوة لتخفيف الشعور القاتل بالذنب هو أن تعترف و يعترف من حولك “أنك كنت جيدًا و أنك مررت بالكثير” اهم من كل شيء أن يعترف أحدهم بأن ألمك هذا حقيقي انك لا توهم نفسك بذلك، اقول لصديقتي يهمني ان يبكي احدهم على مآسيَّ أكثر من أن يحاول إيجاد حلول لي، استطيع التفكير في حلول كثيرة اعتقد انني اتمتع بذكاء متوسط يساعدني على ذلك لكنني لا استطيع التعاطف مع نفسي، أحتاج من يخبرني دومًا ان لا أنساني.

الصورة الدافئة هذه لمصوّر له فضل على مزاجي الهادئ هذه الأيام https://twitter.com/riki_s7_/status/1284781577369792512?s=21

لست أمًا لأحدهم

بعد منتصف الليل بساعتين تهرول يدي على لوحة مفاتيح جهازي في سباق مع موعد التسليم النهائي لواجب التصميم، أحسب أفكر أقيس أعيد الرسم أتسائل ان كنت على صواب، ان كان بقية أعضاء المجموعة يعملون هم أيضًا كي نتمكن من اللحاق بالتسليم النهائي، يصاب ظهري بالخدر من طيلة الجلوس و عيناي تشكوان ضعف ضوء الأبجورة، أفكر أن هذه حياة لا تشبهني أبدًا يقطع سكينتي صوت بكاء اتجاهله قليلًا ربما كان بكاءً عابرًا أثناء حلم لكنّه لا يتوقف، أركض أغسل مرضعته و أقف أمام غلاية الماء بانتظاره ليكون جاهزًا، صوته عالٍ أعلى من صوت الغلاية، اعود للغرفة أخبره بصوت هادئ “انا هنا، اصبر حبيبي شوي” و اقفل عائدة للغلاية لكنه لا يمهلني حتى اسكب الماء، يصرخ و يزيد توتّري حدة، أخاه الاكبر بجانبه ينام و اخشى ان يوقظه فيبكي هو الآخر، أترك كل شيء أحضنه و أغني

” محمد زين زين

و ذكره كلّش زين

مولود في ضحى الاثنين

لا اله الا الله محمد رسول الله”

تعلمت هذه التهويدة من امي حين كانت قبل ستّ سنوات تسهر بجانبي و أنا ادرس لامتحانات الثانوية و هي تهدهد اخاه الاكبر، يعيد التاريخ نفسه غير أنني هذه المرة لوحدي في السنة الاخيرة من الجامعة و مع طفلين، لست أمًا أو على الأقل بالمعنى البايولوجي لم أضع مولودي الأول بعد لكن اختي فعلت و انا من اصبحت أمًا بطريقةٍ غير مقصودة.

منذ ان عهدت أمهم إليَّ مهمة الاهتمام بهم و أنا لا أتوقف عن الركض، اركض حتى و انا نائمة أحيانًا استيقظ بإعياء فضيع لدرجة أنني أبكي حين يحين موعد استيقاظهم، احبهم لكن السباق هذا لا يتوقف، احاول ان اشغل ذهني و أنا اقوم بتجهيزهم كل صباح اغني بصوت عالٍ او فقط اتكلم بجمل مفككة، لا اجد وقتًا و جهدًا لإكمال دراستي، افكر يوميًا في التوقف لفترة مع انني اعلم ان هذا أمر طارئ و أن الحياة ستعود لعادتها القديمة بإذن الله لكن عقلي لا يصدّق تقلّب الأيام، اصبحت اسرع من ذي قبل في كل انشطتي بإمكاني حتى الاستحمام في ثلاث دقائق، و انام منذ اللحظة الاولى التي يلامس فيها رأسي اي وسادة امامي، استيقظت مرة لأجدني نائمة على ارضية الممر متوسّدة ذراعي، انام في اي مكان و على قولة الثبيتي “منزلي حيثما ألقي مفاتيحي” أينما أجد ارضًا مستوية فهذه سريري، حسبت يومًا عدد غفواتي المفاجئة فوجدتها اكثر من اربع غفوات، من ينام بهذه الطريقة الغريبة غير الامهات؟ لكنني لست أمًا مرةً اخرى انا لست أمًا لأحدهم لست إنسانًا حتى، أنا كائن يبحث عن الوسائد لينام و يفعل أشياء جانبية أخرى ليعيش.

الرابطة التي تمسك عالمي

لا أجيد البدايات مع ذلك كثيرة هي المرات التي أترك فيها مهامي في منتصفها و اعود بعد فترة لإكمالها فأقف أمام إحراج البداية مرة أخرى، كان هذا السبب الذي جعل مهمة حفظي للقرآن تصل لأربع عشرة عامًا، أربع عشرة عامًا من الاعتذار عند كل بداية بعد أن أتغيب لمدة شهر ثم اعود منكصة الرأس و أترك كلمات العتاب تسيل من فوقي لتتجمع في المستنقع الراكد الذي أعيش فيه، راكد لأنني لا اعرف تحريك الكلام في رأسي لا ابرع في ذلك أبدًا، أخبِرني أي كلمة سيئة و سأتذكرها حتى موتك، لا أعرف ما الذي يعنيه أن أكون شخصًا متسامحًا ولا ينسى في الوقت ذاته، الكثيرون يسامحون و يرمون الذكرى لكلاب النسيان أما أنا فأمسكها من يدها و أهرب بها لداخلي، أعامل الجميع بصفتهم كائنات لا تنسى أيضًا، أصاب بخجل شديد و إحباط لا يحتمل حين أتفوه بكلمة سيئة لأحدهم قصدتها أم لم أفعل، لا يمكنني بعدها الخروج من غرفتي لا يمكنني حتى الاستيقاظ من النوم لأنني أتعامل مع النوم بصفته الفعل السحري الذي يمحي تواجدي لفترة من الزمن، حين أُخطئ أتوجه للفراش و أنام ليوم كامل أو أكثر أحيانًا حسب شدة إحراجي و هذا ما حدث قبل يومين.

في هذا الفصل الصيفي كان من المقرر أن أدرس إحدى مواد سنة التخرج مع أشدّ الأساتذة في القسم، كانت الفكرة بحد ذاتها مرعبة لأن هذا الأستاذ لا يؤمن بما يسمى الفصل الصيفي و بسبب إصرارنا كطلبة مقبلين على سنة التخرج أُجبر على طرحها، و كما توقعت و توقع الكثير فعل بنا الأعاجيب، في مشروع المادة كان على كل طالب العمل بمفرده و وُزّعت أرقام المسائل توزيعًا آليًا، كنت ممن لم يحالفهم الحظ فأرقامي مستحيلة لا يمكن حلّ المشروع بها، أصبت بالهلع لمدة ثلاثة أيام قبل تسليمه ناقصًا، عندها كان قد حان وقت امتحان المنتصف، بينما كان الحل صفحة كاملة أُجبرنا على كتابة الناتج النهائي فقط على الشاشة وتم تصحيحه آليًا مع هامش خطأ صغير جدًا، انهيت الامتحان وحالما أظهرت الشاشة درجتي قمت بسحب المادة، لم أفعلها سابقًا في حياتي، لم أنسحب من أي مشروع بدأت فيه، نعم توقفاتي كثيرة جدًا وقد يتم تمديد وقت الإنجاز لمرات عديدة لكنني لم أتذكر ولا لمرة واحدة أنه يمكنني أن أقول “هذا لا يناسبني” وأنسحب ببساطة، كان من الرائع جدًا أن أفعلها رغم أنني بذلك الفعل تخليت عن تعب الأسابيع الماضية لكنَّني انتصرت لنفسي.

بعد أن سَحَبَ المادة نصف عدد المسجلين من طلبة و طالبات تم عقد اجتماع مع مدير القسم، الاجتماع كان في الثانية ظهرًا و لأن المنزل يضِجُّ بإزعاج الأطفال حضرت كامل الاجتماع في الفناء والشمس تلسع بأسواطها رأسي، لم اجلس لساعتين كنت أدور و أدور و أدور أحاول تخفيف حرقتي من الظلم الذي أحس به اتجاه التقليل من اجتهادي، لن أسمح لمن يجلس في مكتبه ولا يعلم كيف يعيش المرء وقته الجحيمي هذا بأن يجعلني أبدو بهذا الاستهتار و الصغر أمام نفسي، بعد ساعتين من الانصات لشكاوي الطلبة و ردود مدير القسم بدأت بالتحدث: حضرة المدير في البداية أخبرتنا أن المنسحبين من المادة كانوا قد سجلوها للتجربة و لم يتعاملوا مع الأمر بجديّة، أحب أن أعطيك نظرة عامة عن الاستهتار الذي تتحدث عنه، لم أنم لثلاثة أيام قبل تسليم المشروع و اضطررت للمهدئات و المنومات كوني مريضة سكر و هذا يؤدي لعدم انضباط السكر، أخبرك زميلي قبل قليل أنه أصيب بارتفاعات في الضغط بسبب الاستاذ ذاته وآخر بالقولون العصبي مما اضطره للعلاج لأربعة أشهر في المشفى، حين درست مادة سابقة مع نفس الاستاذ و يوم امتحان المنتصف تم إدخالي للمشفى من شدة ارتفاع السكر بسبب الخوف والضغط النفسي، هل يفترض أن نتخرج من الجامعة بأجساد مهترئة لا يمكنها حتى إكمال الباقي من مسيرة العمر. تكلمت بحرقة كدت ابكي أقفلت الهاتف و دخلت المنزل رأسي ينبض من ألم ارتفاع السكر أكاد أفقدني، صادف دخولي وجود اخي الاكبر و رغبته في المزاح الحاد، كان مزاحه هو ما فتت تماسكي، انفجرت بنقد لاذع لم اتحدث قبلًا مع احد اخوتي بهذه الطريقة كنت أشعر بكلماتي تحرق حلقي قبل ان تخرج لتحرقه، بعد ان انتهيت اعتذرت بكل اسف و توجهت ركضًا لغرفتي و نمت حتى اليوم التالي.

أتى اخي في منتصف الليل ليقبّل رأسي و يخبرني أن لا أحزن من نفسي، طوال الشهر الماضي أمام كل ذلك الضغط الهائل و الألم الجسدي و النفسي لم أبك أبدًا، لكنني بكيت حين خرج و أغلق الباب خلفه، لم تمض دقائق حين طرق أخي الأصغر باب الغرفة ليضع علبة من الحلويات على مكتبي و يخرج، أستمر في التعجب من قدرة هذه العائلة على احتوائي رغم أخطائي، من قدرة العائلة على أن تغفر لبعضها بهذه الطريقة! بهذه السرعة! أتعجب من الحب الموجّه لي، أنا بذاتي لا يمكنني أن أحبني لهذه الدرجة، من الإيمان الغير القابل للشك بشخصي و قدراتي، رغم كون الفروق العمرية بيننا كبيرة جدًا حيث أن الفرق بيني وبين أخي الأكبر يساوي الفرق بينه وبين والدتي، رغم كوني اعيش بعيدة منذ أربعة سنوات كما حصل معهم جميعًا حيث إنسلّ الواحد تلو الآخر ليخرج للحياة بعد التخرج من المدرسة الثانوية، رغم تباين الخبرات و التجارب و الاهتمامات والرغبات، رغم الأمزجة المتقلبة و المواقف الحادة و التي أكاد أجزم أحيانًا أنها ستتمكن من قطع أي رابط بيننا أعود و يعودون دومًا لتلك الرغبة اللانهائية في حماية أحدنا الآخر، حين أراقب هذه الرابطة الشديدة التي تجذبني لهم أؤمن أن عجائب الله في أنفس البشر أكثر إعجازًا من هذا الكون الشاسع بأكمله.

وداعًا مارس أهلًا بالسنّ القانوني: توصيات لبداية ربيع مبهج.

بداية الإسبوع هذا كنت أضع رجلي في أول عامي الواحد و العشرين وهو السن القانوني في معظم دول العالم، الآن لا يسامحني القانون على أي جناية أرتكبها بقصد أو بدونه، إحساس مفرط بالحماس اتجاه تهذيب نفسي لأن آخر ما أتمناه هو قضاء عشرينيات عمري في دفع ثمن المخالفات القانونية، بهذه المناسبة التي دومًا ما أحتفل بها بكل ما يتوفر حولي و بما أننا الآن في فترة حرجة من تاريخ الإنسانية قررت الاحتفال بما استطيع صنعه في المنزل، إرتديت فستاني الذي ادخرته لهذا اليوم و تزيّنت، خبزت الكعكة التي أحب و نظرًا لعدم توفر شموع قررت أن واحد و عشرون وردة صغيرة بديل جيّد، كما أنني أستمتع بفكرة أنني ولدت في الربيع و أن هذه الزهور تعنيني بشكل خاص -مواليد الفصول الأخرى ربما عليكم البدء بالبحث عن شموع تشبهكم أنتم أيضًا- بعد استغلال أفراد العائلة المحتجزين قصرًا في المنزل و اجبارهم على الاحتفال معي، قررت قضاء بقية النهار على الأرجوحة أتمتع بالرذاذ اللطيف للأمطار الربيعية و أراقب أسراب الطيور تؤدي عروضها الجوّية أمام ناظري لتبهجني و الأشجار تلوّح بأياديها المتفرعة كُمحاولةً لملامسة يدي حتى يتسنى لها مصافحتي و تهنئتي بالعام الجديد، كل ما في الأرض هذا اليوم كان يحلو لي تخيّله وهو فَرِحٌ بوجودي.

أُولي يوم ميلادي اهتمامًا خاصًا من ناحية التفكير في ما أنا عليه و ما لا يرضيني أن أكونه، بعد التمعّن في قائمة المهارات التي كانت لتكون حياتي أسهل لو تمسكت بتعلّمها منذ الصغر هي مهارة أن تكون صبورًا لا يسهل استفزازك، و أنا حتمًا لست هذا النوع من الأشخاص بل إنني من شدة استعجالي أفكر في ما يجب فعله بعد سنوات و أتأذى سريعًا كنتيجة حتمية لعدم تحقق كل ما أريده بالطبع، أريد أن أصبر على نفسي بالتحديد، من بين كل العوائق التي علي الانسان الاهتمام بالصبر عليها و ضبط نفسه حتى يتخطاها فأول ما يجيء في قائمتي هي نفسي، في حياتي كلها لم أواجه شيئًا يمكنه تحطيمي كما فعلت نفسي بي، عجولة و شكاكة في ذاتها و يسهل استفزازها، لذلك أضع خطة علاجية طويلة المدى حتى أعالج نفسي من نفسي، لا أهرب من التفكير في ما لا يعجبني، أتأكد أنني أفهم تصرفاتي و أنّي بأكملي تحت سيطرتي، أضع يدي على ما يؤلمني و يزعجني و أعترف أنه يفعل -عوضًا عن تجاهله و تحمل الآلام الإضافية نتيجة الجهل بالمكان الذي تأتيني منه الضربات التي توجعني-، أحاول تذكير نفسي بأنني لست المُلامة دائمًا و أن الحياة يمكنها أن تتصرف كصديق طفولة خائن أحيانًا.

بالحديث عن الربيع و ما تجلبه رياحه النديّة من بهجة معها فدائمًا ما يرتبط الربيع في ذهني بالأشجار، ربما يعزى ذلك لكوني نشأت و ترعرت في قرية زراعية، أعرف المواسم بالأشجار التي تثمر فيها، الآن يأتي موسم حصاد التين و التوت و النبق و الفلفل و الجزر و تتكوّر ثمار المانجو الخضراء في انتظار قِطافها صيفًا، أقضي وقتًا لا بأس به في صحبة الأشجار هذا الوقت من العام لذلك أجد الألفة في قراءة هايكوات الشاعر الياباني “إيسا كوباياشي” الذي عاش هو الآخر في قرية زراعية بسيطة بين عاميّ 1763 و 1827 و يصف فيها حياته كشاعر يقضي يومه تحت ظلال الأشجار و مساءً يأكل وحيدًا في بيته الجبليّ، أعاود فتح الديوان لأقرأ منه كل ليلة تقريبًا و لا أغيّر مكانه بجانب السرير، لأن القراءة لإيسّا تمنحني السكينة و تأخذني بيدي لأوقات لم أحظ بمعايشتها و لا أظنني سأفعل، يلفت نظري للمشاهد التي لم أكن أرى فيها جمالًا قط، حوّلني إيسّا إلى شخص يرى الحياة حوله صورًا شعرية و من يعلم ربما أبدأ بتدوينها ذات يوم، لذلك أستذكر أكثرها ملاطفةً لقلبي:

"بقلق
تعبر المطر الهاطل
فراشات الربيع"
"حتى الفئران 
نشعر بالإرتياح و تنام
تحت أمطار الربيع"
"من تلقاء نفسه
ينحني الرأس
لأزهار البرقوق"
"سطح تلو سطح
تُفتح النوافذ دفعةً واحدة
أوائل الربيع"
" أليس من العجائب
أن تكون حيَّا هكذا
و في ظلال الأشجار!"

و من اليابان أيضًا لا يمكنني التغاضي عن رواية “ملذات طوكيو“، وصوف أشجار الكرز فيها و تعاقب الفصول كان يلفت انتباهي أكثر حتى من القصة ذاتها، تعجبني الأعمال التي لا تُغفل جريان الزمن على المحيط، فالزمان يجري على مكان القصة كما هو الحال مع الشخصيات، و أكثر ما أتذكره في هذا العمل قول إحدى الشخصيات “ان الطريقة الوحيدة لأن نحيا و نعيش هي بالتأكيد أن نصبح نوعًا من الشعراء و الشاعرات إن النظر إلى الواقع وحده يمنح المرء رغبة في الموت “. مهما طال تفكيري في هذه الجملة أجدني أعود لأتفق معها، إن الشعر يملك قدرة عجيبة على مواساتي و إلهائي عن سوء الحياة، أتعافى بالشعر كما يتعافى المحبّ بحبيبه.

قبل أن أقفل الباب على التوصيات اليابانية أدعوكم لإعطاء السينما اليابانية فرصة هي الأخرى في إثبات أن لرؤية الأشجار تزهر في الربيع تأثيرًا خارقًا على نفس الإنسان، في الفلم الرقيق “our little sister” الذي يحكي عن ثلاثة أخوات يعشن في بيت متواضع ببلدة كبيرة، يلتقين للمرة الأولى بأختهن الصغيرة في جنازة والدهن الذي طلّق أمهن و عاد للريف ليتزوج و ينجب الصغيرة سوزو ذات الخمس عشرة عامًا، يقررن دعوتها للعيش معهن في المنزل و يظهر الفلم طريقة تحوّل حياة كل واحد منهن أثناء تكوّن تلك العلاقة الأخوية الجميلة، المشاهد في هذا الفلم تساعدني على الاسترخاء لذلك أعاود مشاهدة بعض لقطاته من وقت لآخر.

في منزلنا نشرب الشاي منذ الصغر بعد وجبتي الغداء و العشاء كتقليد يومي، قبل عام أضفت الشاي أيضًا لوجبة الفطور، أحبّ الشاي و لكنني أحبّه أكثر الآن حيث يمكن لكل شيء أن يحوي أضعاف سحره و تأثيره في الربيع، في هذه الأيام أُداوم تحضير شاي جلبه لي أخوتي حين خانوا العهد و ذهبوا لرحلة شتائية من دوني في بريطانيا، اكتشفت مؤخرًا أنه يباع أيضًا عبر الانترنت لمن أراد التجربة، الجدير بالذكر أن كل ما يباع لديهم مفعم بشكل غريب و مركّز بالنكهات، أعني أنني جرّبت أنواعًا عديدة من الشاي و مسحوق الشوكولا الخام لكن لم أشعر مسبقًا برغبة ملحّة في إخبار الناس بأيّ منها، يشعرني بالنشوة ذلك المذاق الحار على لساني لأوراق شجرة الكرز و الشاي الأخضر، لم أشرب كوبًا من هذا الشاي إلا و تحسّن مزاجي منذ الرشفة الأولى، أتمسّك به دومًا كورقة رابحة أمام الأيام الصعبة، ورقة لم تخسر قط.

سعادة مُنتزعة من فم الحياة

إنه لشيء رائع أن أكتب تدوينتي الآن من مغطس مطلّ من الطابق الرابع و الثلاثين على الشارع رئيسي في العاصمة، أمر في قمة الرفاهية رغم أن الماء الحار من حولي يصيبني بالعطش و لكنني أتدبر أمري هنا بشكل جيدّ، العطش شعور لا يستحق أن أبتر سعادتي بهذه اللحظة لأجله.

خلال اليومان الماضيان كنت في صدد قراءة كتاب “التداوي بالفلسفة” لسعيد ناشيد و الذي في الحقيقة كنت مستمعة به و بفكره و فلسفته لولا الجزء الأخير حين بدأ ناشيد يحيد عن الطريقة التي أتى بها في بداية الكتاب، على الرغم من ذلك كنت أحاول قراءة الكتاب في أسوأ أوقاتي المزاجية في السيارات المزدحمة بالركاب و صياح الأطفال، في أوقات الانتظار التي طالت كثيرًا بسبب عادة التأخير السيئة لدى جميع أفراد المنزل بمن فيهم محدثتكم شخصيًا، و بما أن دراسة الهندسة تحتّم عليّ الطريقة العلمية التجريبة في إثبات الأشياء، تعمدت هذه الأوقات فقط كي أضع الفلسفية قيد التجريب مباشرة، إن لم يستطع هذا الكتاب تهدئتي و منحي أفكارًا أتخلى فيها عن غضبي و حدّتي في هذه المواقف فهذا التداوي فاشل حتمًا.

لا أستطيع الجزم أن ناشيد نجح فعلًا في مداواتي لكن ما أستطيع قوله هو أنه منح عقلي نوافذ جديدة يطلّ منها على العالم، كان بودّي دومًا لو أتمكن من قراءة كتاب واحد يخص الفلسفة لكنّني منذ المرة التي أعطتني فيها صديقتي -و هي مُحاضِرة في إحدى الجامعات- محاضرة خاصة كاملة عن تاريخ الفلسفة السقراطية و بعد نهايتها وجدت أن كل ما دونته من ملاحظات ملخصه “كل هذا بديهي و سقراط يحب الافتاء و الهبد” علمت حينها أنه لا مجال لألتقي مع هذا العلم في حياتي أبدًا، ولكن يضع الله الأمور في طريقنا عنوة كأن أذهب لمدينة أخرى بلا أي كتاب و يقترح أخي أن آخذ هذا الكتاب من مكتبته مثلًا.

من حقي الآن بعد قراءة كتاب واحد في الفلسفة أن أبدأ بسرد فلسفتي الخاصة أنا أيضًا و لا أظن أن لأحدهم الحق في مسائلتي عن مدى معرفتي بالأمر لأكتب فيه، قرأت كتاب و هذا يكفي بما أنكم يا معشر تويتر تقدّسون الكتب و ترون فيها ما لا أرى، المهم أنني الآن جاهزة تمامًا لأخبركم فلسفتي الخاصة بالسعادة.

منذ بداية هذا العام الميلادي و أنا لظروف بعضها كان يمكن السيطرة عليه و الآخر انفلت من عقاله كان جزءًا كاملًا من حياتي قد استقر على شفا جرف هارٍ و قد انهار بعضه بالفعل و كنت أحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من أهم آلياتي دفاعي عن صحتي العقلية و النفسية وقتها كان القراءة و أتمتت حتى هذا اليوم ستة و تسعون كتابًا على ذمة القودريدز، القراءة لم تكن وقتها للترفيه بل للهرب و محاولة تكديس القصائد كوتد في قلبي أشدّ إليه ما تبقى من أماني الداخلي، و كنت أردد كل ليلة أحيانًا بشكل فردي و أحيانًا أخرى مع أخي “إن يومًا ما سيكون الأخير لهذا التعب” و أذكر أنني مررت على حديقة الجامعة في صباح أحد الأيام و قلت بصوت هادئ للأشجار من حولي “يومًا ما سأمر هنا للمرة الأخيرة، سواءً كان هذا طريقًا للتخرج أو الموت، ستكون هناك حتمًا مرة أخيرة”.

و أنا أعدّ نوبات هلعي في السنة الماضية و أفاضلها مع لحظاتي السعيدة أجد أنني كنت سعيدة بفضل الله أكثر بكثير من الوقت الذي قضيته في كل نوباتي و حين أفكر بالأمر أجد أنني أعزو كل ذلك بعد الله لفكرة المرات الأخيرة هذه، كل الأمور يمكن احتمالها حين تبدأ بالتفكير أن هناك حتمًا نهاية لها، الحياة بذاتها لا يمكن احتمالها الا بفكرة حتمية الموت ، لذلك تشبثت دومًا بفكرة أن النهايات قادمة ما يعني أن السعادة بالخلاص حتى لو كان خلاصًا مُرًا فإنه آتٍ و هذا الشقاء فإلى النسيان غير مأسوف عليه.

وصلت لنهاية هذا العام و انتهت الأمور على نتيجة لم تكن بقدر الجهد لكنها و الحمد لله طيّبة تمكنني من “وضع رجليني في مايّه ساقعة” و البدء أخيرًا بخطوات ثابتة قصيرة عوضًا عن ركض السنة الماضية، حين انسللت في المغطس أغمضت عيناي و أطلقت ضحكتي الصافرة سخرية من الحياة التي تقول عنها أم كلثوم “سوف تلهو بنا الحياة و تسخر”، الآن حان وقتي لأسخر و ألهو و أنتزع سعادتي من الفم الذي التهمها سابقًا.