الرابطة التي تمسك عالمي

لا أجيد البدايات مع ذلك كثيرة هي المرات التي أترك فيها مهامي في منتصفها و اعود بعد فترة لإكمالها فأقف أمام إحراج البداية مرة أخرى، كان هذا السبب الذي جعل مهمة حفظي للقرآن تصل لأربع عشرة عامًا، أربع عشرة عامًا من الاعتذار عند كل بداية بعد أن أتغيب لمدة شهر ثم اعود منكصة الرأس و أترك كلمات العتاب تسيل من فوقي لتتجمع في المستنقع الراكد الذي أعيش فيه، راكد لأنني لا اعرف تحريك الكلام في رأسي لا ابرع في ذلك أبدًا، أخبِرني أي كلمة سيئة و سأتذكرها حتى موتك، لا أعرف ما الذي يعنيه أن أكون شخصًا متسامحًا ولا ينسى في الوقت ذاته، الكثيرون يسامحون و يرمون الذكرى لكلاب النسيان أما أنا فأمسكها من يدها و أهرب بها لداخلي، أعامل الجميع بصفتهم كائنات لا تنسى أيضًا، أصاب بخجل شديد و إحباط لا يحتمل حين أتفوه بكلمة سيئة لأحدهم قصدتها أم لم أفعل، لا يمكنني بعدها الخروج من غرفتي لا يمكنني حتى الاستيقاظ من النوم لأنني أتعامل مع النوم بصفته الفعل السحري الذي يمحي تواجدي لفترة من الزمن، حين أُخطئ أتوجه للفراش و أنام ليوم كامل أو أكثر أحيانًا حسب شدة إحراجي و هذا ما حدث قبل يومين.

في هذا الفصل الصيفي كان من المقرر أن أدرس إحدى مواد سنة التخرج مع أشدّ الأساتذة في القسم، كانت الفكرة بحد ذاتها مرعبة لأن هذا الأستاذ لا يؤمن بما يسمى الفصل الصيفي و بسبب إصرارنا كطلبة مقبلين على سنة التخرج أُجبر على طرحها، و كما توقعت و توقع الكثير فعل بنا الأعاجيب، في مشروع المادة كان على كل طالب العمل بمفرده و وُزّعت أرقام المسائل توزيعًا آليًا، كنت ممن لم يحالفهم الحظ فأرقامي مستحيلة لا يمكن حلّ المشروع بها، أصبت بالهلع لمدة ثلاثة أيام قبل تسليمه ناقصًا، عندها كان قد حان وقت امتحان المنتصف، بينما كان الحل صفحة كاملة أُجبرنا على كتابة الناتج النهائي فقط على الشاشة وتم تصحيحه آليًا مع هامش خطأ صغير جدًا، انهيت الامتحان وحالما أظهرت الشاشة درجتي قمت بسحب المادة، لم أفعلها سابقًا في حياتي، لم أنسحب من أي مشروع بدأت فيه، نعم توقفاتي كثيرة جدًا وقد يتم تمديد وقت الإنجاز لمرات عديدة لكنني لم أتذكر ولا لمرة واحدة أنه يمكنني أن أقول “هذا لا يناسبني” وأنسحب ببساطة، كان من الرائع جدًا أن أفعلها رغم أنني بذلك الفعل تخليت عن تعب الأسابيع الماضية لكنَّني انتصرت لنفسي.

بعد أن سَحَبَ المادة نصف عدد المسجلين من طلبة و طالبات تم عقد اجتماع مع مدير القسم، الاجتماع كان في الثانية ظهرًا و لأن المنزل يضِجُّ بإزعاج الأطفال حضرت كامل الاجتماع في الفناء والشمس تلسع بأسواطها رأسي، لم اجلس لساعتين كنت أدور و أدور و أدور أحاول تخفيف حرقتي من الظلم الذي أحس به اتجاه التقليل من اجتهادي، لن أسمح لمن يجلس في مكتبه ولا يعلم كيف يعيش المرء وقته الجحيمي هذا بأن يجعلني أبدو بهذا الاستهتار و الصغر أمام نفسي، بعد ساعتين من الانصات لشكاوي الطلبة و ردود مدير القسم بدأت بالتحدث: حضرة المدير في البداية أخبرتنا أن المنسحبين من المادة كانوا قد سجلوها للتجربة و لم يتعاملوا مع الأمر بجديّة، أحب أن أعطيك نظرة عامة عن الاستهتار الذي تتحدث عنه، لم أنم لثلاثة أيام قبل تسليم المشروع و اضطررت للمهدئات و المنومات كوني مريضة سكر و هذا يؤدي لعدم انضباط السكر، أخبرك زميلي قبل قليل أنه أصيب بارتفاعات في الضغط بسبب الاستاذ ذاته وآخر بالقولون العصبي مما اضطره للعلاج لأربعة أشهر في المشفى، حين درست مادة سابقة مع نفس الاستاذ و يوم امتحان المنتصف تم إدخالي للمشفى من شدة ارتفاع السكر بسبب الخوف والضغط النفسي، هل يفترض أن نتخرج من الجامعة بأجساد مهترئة لا يمكنها حتى إكمال الباقي من مسيرة العمر. تكلمت بحرقة كدت ابكي أقفلت الهاتف و دخلت المنزل رأسي ينبض من ألم ارتفاع السكر أكاد أفقدني، صادف دخولي وجود اخي الاكبر و رغبته في المزاح الحاد، كان مزاحه هو ما فتت تماسكي، انفجرت بنقد لاذع لم اتحدث قبلًا مع احد اخوتي بهذه الطريقة كنت أشعر بكلماتي تحرق حلقي قبل ان تخرج لتحرقه، بعد ان انتهيت اعتذرت بكل اسف و توجهت ركضًا لغرفتي و نمت حتى اليوم التالي.

أتى اخي في منتصف الليل ليقبّل رأسي و يخبرني أن لا أحزن من نفسي، طوال الشهر الماضي أمام كل ذلك الضغط الهائل و الألم الجسدي و النفسي لم أبك أبدًا، لكنني بكيت حين خرج و أغلق الباب خلفه، لم تمض دقائق حين طرق أخي الأصغر باب الغرفة ليضع علبة من الحلويات على مكتبي و يخرج، أستمر في التعجب من قدرة هذه العائلة على احتوائي رغم أخطائي، من قدرة العائلة على أن تغفر لبعضها بهذه الطريقة! بهذه السرعة! أتعجب من الحب الموجّه لي، أنا بذاتي لا يمكنني أن أحبني لهذه الدرجة، من الإيمان الغير القابل للشك بشخصي و قدراتي، رغم كون الفروق العمرية بيننا كبيرة جدًا حيث أن الفرق بيني وبين أخي الأكبر يساوي الفرق بينه وبين والدتي، رغم كوني اعيش بعيدة منذ أربعة سنوات كما حصل معهم جميعًا حيث إنسلّ الواحد تلو الآخر ليخرج للحياة بعد التخرج من المدرسة الثانوية، رغم تباين الخبرات و التجارب و الاهتمامات والرغبات، رغم الأمزجة المتقلبة و المواقف الحادة و التي أكاد أجزم أحيانًا أنها ستتمكن من قطع أي رابط بيننا أعود و يعودون دومًا لتلك الرغبة اللانهائية في حماية أحدنا الآخر، حين أراقب هذه الرابطة الشديدة التي تجذبني لهم أؤمن أن عجائب الله في أنفس البشر أكثر إعجازًا من هذا الكون الشاسع بأكمله.

7 رأي حول “الرابطة التي تمسك عالمي”

  1. وهذه الالتقاطة انتصار عظيم آخر “أستمر في التعجب من قدرة هذه العائلة على احتوائي رغم أخطائي، من قدرة العائلة على أن تغفر لبعضها بهذه الطريقة! بهذه السرعة! أتعجب من الحب الموجّه لي، أنا بذاتي لا يمكنني أن أحبني لهذه الدرجة، من الإيمان الغير القابل للشك بشخصي وقدراتي، رغم كون الفروق العمرية بيننا كبيرة جدًا، رغم تباين الخبرات والتجارب والاهتمامات والرغبات، رغم الأمزجة المتقلبة والمواقف الحادة والتي أكاد أجزم أحيانًا أنها ستتمكن من قطع أي رابط بيننا أعود ويعودون دومًا لتلك الرغبة اللانهائية في حماية أحدنا الآخر، حين أراقب هذه الرابطة الشديدة التي تجذبني لهم أؤمن أن عجائب الله في أنفس البشر أكثر إعجازًا من هذا الكون الشاسع بأكمله.”

    Liked by 2 people

  2. توسطت بلعومي عبرة قوية والدمع يدافع نفسه للنزول وانا أقرأ هالتدوينة.. لدرجة وقفت شوي عشان ألملم نفسي وبعدين كملت، ما أعرف ايش لمستي فيني لكن كتابتك هذي شعور من قلب واعي على نفسه لأنفس اللي يقرؤون، مليان صدق.

    Liked by 2 people

  3. اول وأجمل مدونة قرأتها ، صرت حرفيا كل ما افتح الموقع اقرأها وكل ما اعيدها يقشعر جسمي لقوة التعبير فيها والمشاعر الجميلة هذي اللي لبثت بنفسي وحسيت بها كتعبير عن اللي بداخلي … 💜💜

    Liked by 2 people

  4. لمعت عيناي رغم تسابق نفسي لإلتهام الكلمات تلو الأخرى، شعرت أني أرى نفسي، او بالأحرى المعاناة التي عانيتها الترم الماضي الذي بكيت بإحدى إختباراته بحرقة حتى قبل أن يبدأ، كان النص يتسلل لداخلي، خصوصاً قلبي، شعرت اني بداخل تلك الأحداث و كأنني انتِ لوهلة من شدّة تشابه ذلك الإرهاق و تلك الليالي المؤرقة و تعب تلك الجامعة الجحيمية و تسلط الأساتذة، لكن استوقفني من بين كل ذلك لطف عائلتك اتجاهك في أعسر و أحلك أوقاتك، انهم الدفء الخفي بحد ذاته ذلك الذي لن تجد مثله مطلقاً، وجدت نفسي بين ثناياكِ و شعرت انك و كأنكِ تتحدثين نيابةً عني فشكراً بعدد نجوم السماء لكِ.

    Liked by 1 person

أضف تعليق