صورة شخصية لحفل تخرج

الرتابة التي تصحب لحظات الاستيقاظ الأولى تغرقني في تعبيرات كثيرة جيدة للكاتبة و التدوين لكن ذلك لا يدوم سوى لثوانٍ معدودة قبل أن أمسك هاتفي و أتوه عن نفسي، اضطرابات النوم أمر حقيقي جدًا بدأت بتصديق الأمر مؤخرًا، أنام قبل منتصف الليل و أصحو لصلاة الفجر في قمة نشاطي ثم أعود للنوم فجر اليوم التالي أي بعد ٢٤ ساعة من الصحو، بصراحة أجد الأمر مخيفًا أكثر من كونه مريب.

اليوم حفل تخرجي من الجامعة بعد خمس سنوات من التوهان في الإحتمالات الهندسية، لديَّ مشاعر متضاربة بخصوص التخرج، لم أنتظر تخرجي من أي مرحلة و دومًا تجاهلت تواريخ تلك الأيام، تمامًا كما أفعل مع كل الأحداث الكبيرة في حياتي، أخطأت في تاريخ حفل تخرجي من الجامعة ثلاث مرات حتى الآن، استيقظت ثلاثة مرات لأكتشف أنني مخطئة و أعاود النوم، حفل تخرجي من الروضة كان استثنائيًا لأنه الأخير في مبنى الروضة القديم و الذي يعتبر في الحقيقة منزل شعبي في حي صغير في قرية مجاورة، طلبت مديرة الروضة من الدفعة الأولى التي تخرجت من هذه الروضة الحضور لحفل تخريجنا كنوع من الوداع النهائي للمبنى و لذكرياتهم القديمة جدًا، حضر القليل، القليل الذي بالكاد اتذكر حضوره، أختي كانت من الدفعة الأولى و لكنها كمعظم أصحابها لم تحضر لانشغالها بالجامعة، فاتتهم جميعًا النظرة الأخيرة لمرتع الطفولة، المضحك أنه بعد كل تلك الطقوس الاحتفالية الوداعية لم نكن نحن الدفعة الأخيرة التي تتخرج من المكان بل تم الإبقاء على المبنى لسنة أخرى بسبب عدم جاهزية المبنى الجديد حيث انتقلت الروضة بعد عام كامل من الطقس الوداعي.

تخرّج الروضة كان الأفضل بين كل حفلات التخرج التي تخصني، الأسوأ كان حفل التخرج من المدرسة الابتدائية، بدأت أمي بإكمال دراستها الإعدادية حين كنت في منتصف دراستي الابتدائية، انتظرت بشغف شديد يوم التخرج هذا، لم يصدر جدول امتحانات والدتي النهائية بعد فلم أخف من احتمالية أن تتخلف والدتي عن الحضور، كنت إحدى المقدمات الثلاث للحفل، ابنة خالتي كانت المقدمة الثانية، أتذكر ارتداؤنا للفستان ذاته كما يجب لبنات الخالة أن يفعلن، أخبرتني أمي قبل حفل التخرج ببضعة أيام أنها لن تستطيع الحضور، جدول امتحاناتها يتعارض مع يوم الحفل، كطفل صغير شعرت بتماسك عجيب، أتفهم أن أمي تحتاج لنيل شهادتها كما أن معلمة اللغة العربية التي أحب ستكون هناك فلا داعي للخوف، توفّي والد معلمتي قبل الحفل بأسبوع فكان محتمًّا أن لا تحضر هي الأخرى لكن لم أبد أي ردة فعل، لا مشكلة سيكون حفلًا عظيمًا حتى بغياب الجميع، أيقظتني والدتي بعد الفجر و وضعت ملابسي في يدي و أرسلتني لمنزل خالتي حيث ستهتم هي بتسريحي و ترتيبي مع ابنتها و ستذهب والدتي لامتحانها، كرهت بشدة التزيّن مع ابنة خالتي في كل المناسبات و كنت دائمًا أفتقر لأسباب صريحة تجعل هربي من هذا الموقف مقبولًا، شعري الأسود الطويل تحت قبعة التخرج و أوراق التقديم في يدي وجدتني للمرة الأولى أقف أمام جمهور من مئة شخص و يزيدون، لم أرفع عيني للجمهور لأن أمي ليست هناك، طوال الحفل التزمت برؤية اوراقي أو مراقبة العروض من خلف الكواليس، خلف المسرح توجد غرفة لتخزين الهدايا التي تخص كل طالبة حيث ستصعد والدتها لإهدائها مع شهادتها، أصبت بمسّ طفيف من الجنون حين دخلت الغرفة و تذكرت أن لا شيء من هذا كله يخصني لأنني سأتلقى شهادتي من المديرة لا من والدتي، اقترب وقت التكريم و أنا أحاول بشدة أن أمسك على قلبي، أخذت شهادتي و انسللت بعيدًا عن الحشد لأحصل على نصيبي من فقد حضورها، والدتي التي أحب، نادتني خالتي لتهديني باقة منها و أخرى من والدتي، عدت للبيت أغلقت الباب و بكيت بجنون، الجنون الحقيقي أنني أبكي مع هذه السطور، بعد سنوات في مقاعد الجامعة درست قانون حفظ الطاقة حيث ينص القانون على أن الطاقة محفوظة لا تفنى و لا تستحدث بل تتحول من شكل لآخر، آلام الطفولة أيضًا لا تشفى فقط تتحول من شكل لآخر.

درست الاعدادية و الثانوية في مدرسة واحدة لذلك كان حفل التخرج الوحيد الذي حظينا به هو في آخر أيام الثانوية العامة، بخوف شديد من فكرة الافتراق النهائي عن الرفاق كنت أحضّر لهذا الحفل، أرحت رأسي على طاولتي الدراسية في كل مرة تم فيها تهديدنا بإلغاء الحفل بسبب سلوكنا الغير منضبط، توفي جد صديقتي قبل الحفل بساعات فلم تحضر و شعرت بألم شديد من الاحتفال بدونها، في آخر سنتين في الثانوية شهدنا كأصدقاء ثمانية مراسم عزاء، الحزن ينضج القلب كما ينضج الماء المغلي بيضة طازجة، تزيدنا الأحزان قساوة، أتذكر من حفل التخرج حضن والدتي فقط، الشيء الوحيد الذي كان يهمني أن يحدث و لم أصدق أنه حدث أخيرًا.

طلبت منّا الجامعة إرسال صورنا الشخصية لوضعها في حفل التخرج الإلكتروني الذي يفترض أن يُبثّ بعد ثلاث ساعات، لم أهتم بإرسال صورتي، لطالما كرهت فكرة الصور الشخصية، أخبرت أمي بشكل عابر عن الأمر و صدمني إحباطها، قالت لماذا تحرمين نفسك هذه الفرحة، الآن أكتب كل هذه الأسطر لأشتت ذهني عن اللحظة التي يبزغ فيها اسمي بلا صورة، وديمة؟ من وديمة؟ هل تملك وجهًا؟

بعد آخر امتحان في الجامعة أغلقت حاسبي الآلي و التقطت صورة شخصية بقبعة تخرج مرمية في الدولاب أظنها تعود لإحدى أخواتي، ربما لم أشارك العالم صورتي بملابس النوم و قبعة التخرج هذه و لكنني على الأقل أملك واحدة لنفسي، هناك أغنية أريد تذكّرها في هذا اليوم، مغامرة العمر Adventure of lifetime لفرقة الروك الإنجليزية كولدبلاي، لا النسخة الأصلية بل نسخة معزوفة من فرقة عشوائية لم أجد رابط الأداء في اليوتيوب لذلك أحتفظ بهذا الرابط من موقع أزوره كلما دعت الحاجة لسماع شيء يخرجني من نفسي و يدفعني للاحساس بانتصار وهمي على كل شيء، على مغامرة العمر بأكمله مثلًا.

حساب الفنانة اليابانية صاحبة صورة التدوينة في تويتر.

11 رأي حول “صورة شخصية لحفل تخرج”

  1. مباركٌ تخرّجك وديمة!
    وأخيرًا نورت المدونة💕
    تخرجي هذا العم أيضا، لكن ليس هناك بثّ حتى! فقط الحصول على شهادة من الجامعة، لكنّها تكفي لجعلي سعيدة، فمجرد الانتهاء لهو نعمة بحدّ ذاتها، وأتوق إلى الكتابة عن ذلك قريبا جدا إن شاء الله.
    موفقة بإذن الله ..

    Liked by 1 person

      1. الله يبارك فيك مقدما 💕
        عاد بتصير عن “يوميات ما قبل التخرج” وزحمة الاختبارات ثم الراحة الأبدية إن شاء الله 😂
        شكرًا للطفك وديمة..🌸

        إعجاب

    1. الله يبارك فيك فادي شكرًا لك على احتمالك هذا الفلم حتى النهاية ممتنة على كل اللحظات اللي استمعت فيها لحرطمتي و على كل هذيك الدعوات الطيّبة، عقبال أحمد و أخوانه ان شاء الله 🤍

      Liked by 1 person

  2. مبارك لك وديمه ،فرحت لك جدًا ، اذكر حلطمتك من الهندسه ومواساتنا الدائمه لك ، الحمدلله ❤️
    على كل حال اشتقت لك وأشتقت للحوار معاك على توصيات كتب جديدة وأرائنا حولها 🥺

    إعجاب

  3. مٌبارك تخرجك وديمة ❤️❤️❤️
    ومنها للأعلى .

    وأخيراً وجدت شيئاً منك !
    أشعر نحوك بشوق غريب يطغى عليه شعورٌ بالحنين ” يمتعض القلب احياناً بسببه ”
    لا اظنكِ تذكرين لكني كنت من المتفاعلين في كل بث تقومين به على التويتر ، كان النقاش معك دائماً ممتع حتى وان اختلفنا.
    أحزنني غيابك .. جداً .

    دعواتي الطيبة لكِ
    دمتِ بخير .

    إعجاب

أضف تعليق